الْوَجْه الْخَامِس والاربعون

 

 

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 62)

الْوَجْه الْخَامِس والاربعون :

مَا خرجا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن مَسْعُود رضى الله عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُول الله :

"لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رجل آتَاهُ الله مَالا، فَسَلَّطَهُ على هَلَكته فِي الْحق، وَرجل آتَاهُ الله الْحِكْمَة، فَهُوَ يقْضى بهَا، وَيعلمهَا."

فأخبر أنه لَا يَنْبَغِي لَاحَدَّ أن يحْسُد أحَدًا يَعْنِي حسد غِبْطَة ويتمنى مثل حَاله من غير ان يتَمَنَّى زَوَال نعْمَة الله عَنهُ إِلَّا فِي وَاحِدَة من هَاتين الخصلتين :

وَهِي الاحسان الى النَّاس بِعِلْمِهِ اَوْ بِمَالِه وَمَا عدا هذَيْن فَلَا يَنْبَغِي غبطته وَلَا تمنى مثل حَاله لقلَّة مَنْفَعَة النَّاس بِهِ." اهـ

 

 

وفي صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري - (6 / 236)

20- باب اغتباط صاحب القرآن.

5025- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :

لاَ حَسَدَ إِلاَ عَلَى اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهْوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَار.

 

شرح النووي على مسلم - (6 / 98)

والحكمة كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - (1 / 285)

(آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ) : وَهِيَ إِصَابَةُ الْحَقِّ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ أَوْ عِلْمِ أَحْكَامِ الدِّينِ.

 

شرح الكلمات :

q           عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (2 / 56_57)

الْحَسَد: تمني الرجل أَن يحول الله إِلَيْهِ نعْمَة الآخر أَو فضيلته، ويسلبهما عَنهُ._____

وَفِي (مجمع الغرائب) : الْحَسَد أَن يرى الْإِنْسَان لِأَخِيهِ نعْمَة فيتمنى أَن تكون لَهُ وتزول عَن أَخِيه، وَهُوَ مَذْمُوم. والغبط: أَن يرى النِّعْمَة فيتمناها لنَفسِهِ من غير أَن تَزُول عَن صَاحبهَا، وَهُوَ مَحْمُود. وَقَالَ ثَعْلَب: المنافسة أَن يتَمَنَّى مثل مَا لَهُ من غير أَن يفْتَقر وَهُوَ مُبَاح. وَيُقَال: الْحَسَد تمني زَوَال النِّعْمَة عَن الْمُنعم عَلَيْهِ،

 

q           عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (2 / 58)

والحسد على ثَلَاثَة أضْرب: محرم ومباح ومحمود، فالمحرم: تمني زَوَال النِّعْمَة الْمَحْسُود عَلَيْهَا عَن صَاحبهَا وانتقالها إِلَى الْحَاسِد.

وَأما القسمان الْآخرَانِ فغبطة، وَهُوَ أَن يتَمَنَّى مَا يرَاهُ من خير بأحدٍ أَن يكون لَهُ مثله، فَإِن كَانَت فِي أُمُور الدُّنْيَا فمباح، وَإِن كَانَت من الطَّاعَات فمحمود.

قَالَ النَّوَوِيّ: الأول حرَام بِالْإِجْمَاع. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء: إِذا أنعم الله تَعَالَى على أَخِيك نعْمَة، فكرهتها واحببت زَوَالهَا، فَهُوَ حرَام بِكُل حَال، إلاّ نعْمَة أَصَابَهَا كَافِر أَو فَاجر، أَو من يَسْتَعِين بهَا على فتْنَة أَو فَسَاد.

 

q           إكمال المعلم بفوائد مسلم - (3 / 184)

والحسد على ثلاثة أضرب: مُحَرَّمٌ مذمومٌ، ومباح،____ومحمود مرغبٌ فيه،

فالأول تمنى زوال النعمة المحسودة من صاحبها وانتقالها إلى الحاسد، وهذا هو حقيقة الحسد، وهو مذموم شرعاً وعرفاً،

وأما الوجهان الآخران: فهو الغبْطُ، وهو أن يتمنى ما يراه من خير بأحدٍ أن يكون له مثله، فإن كان من أمور الدنيا المباحة كان تمنى ذلك مباحاً، وإن كانت من أمور الطاعات كان محموداً مرغباً فيه.

 

q           كشف المشكل من حديث الصحيحين - (1 / 193)

الحسد هو تمني زوال النعمة عن المحسود وإن لم تصر للحاسد وسببه أنه قد وضع في الطباع كراهة المماثلة وحب الرفعة على الجنس فإذا رأى الإنسان من قد نال ما لم ينل أحب بالطبع أن يزول ذلك ليقع التساوي أو ليحصل له الارتفاع على ذلك الشخص وهذا أمر مركوز في الطباع ولا يسلم منه أحد وإنما المذموم العمل بمقتضى ذلك من سب المنعم عليه أو السعي في إزالة نعمته ثم ينبغي للإنسان إذا وجد الحسد من نفسه أن يكره كون ذلك فيه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات وقد ذم الحسد على الإطلاق لما ينتجه ويوجبه

 

فوائد الحديث :

 

عمدة القاري شرح صحيح البخاري - (2 / 58)

وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه من الْفِقْه أَن الْغَنِيّ إِذا قَامَ بِشُرُوط المَال، وَفعل مَا يُرْضِي ربه تبَارك وَتَعَالَى فَهُوَ أفضل من الْفَقِير الَّذِي لَا يقدر على مثل هَذَا، وَالله أعلم.

شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (1 / 158)

وفيه من الفقه أن الغنى إذا قام بشروط المال ، وفعل فيه ما يرضى الله ، فهو أفضل من الفقير الذى لا يقدر على مثل حاله .

 

شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (3 / 408)

قال بعض أهل العلم : إنفاق المال فى حقه ينقسم ثلاثة أقسام :

فالأول : أن ينفق على نفسه ، وأهله ، ومن تلزمه نفقته غير مقتر عما يجب لهم ، ولا مسرف فى ذلك ، كما قال تعالى :

شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (3 / 409)

) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا ) [ الفرقان : 67 ] ، وهذه النفقة أفضل من الصدقة ، ومن جميع النفقات ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها فِى فىّ امرأتك ) .

وقسم ثان : وهو أداء الزكاة ، وإخراج حق الله تعالى لمن وجب له . وقد قيل : من أدى الزكاة فقد سقط عنه اسم البخل .

وقسم ثالث : وهو صلة الأهل البعداء ومواساة الصديق ، وإطعام الجائع ، وصدقة التطوع كلها فهذه نفقة مندوب إليها مأجور عليها ، لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الساعى على الأرملة واليتيم كالمجاهد فى سبيل الله ) .

فمن أنفق فى هذه الوجوه الثلاثة فقد وضع المال فى موضعه ، وأنفقه فى حقه ، ووجب حسده ، وكذلك من آتاه الله حكمته فعلمها فهو وارث منزلة النبوة ، لأنه يموت ويبقى له أجر من علّمه ، وعمل بعلمه إلى يوم القيامة ، فينبغى لكل مؤمن أن يحسد من هذه حاله ، والله يؤتى فضله من يشاء .

 

q           شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال - (10 / 264)

قال المؤلف : ذكر أبو عبيد بإسناده عن عبد الله بن عمر بن العاص قال : من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا ، وقد استدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه ، فلا ينبغى لصاحب القرآن أن يرفث فيمن يرفث ولا يجهل فيمن يجهل ، وفى جوفه كلام الله . وقال سفيان بن عيينة : من أعطى القرآن فمد عينيه إلى شىء ما صغر القرآن فقد خالف القرآن ،

 

q           بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار - (1 / 293)

وأعظم من يغبط : من كان عنده مال قد حصل له من حله ، ثم سلط ووفق على إنفاقه في الحق ، في الحقوق الواجبة والمستحبة ، فإن هذا من أعظم البرهان على الإيمان ، ومن أعظم أنواع الإحسان .

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار - (1 / 294)

ومن كان عنده علم وحكمة علمه الله إياها ، فوفق لبذلها في التعليم والحكم بين الناس ، فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شيء .

الأول : ينفع الخلق بماله ، ويدفع حاجاتهم ، وينفق في المشاريع الخيرية ، فتقوم ويتسلسل نفعها ، ويعظم وقعها .

والثاني : ينفع الناس بعلمه ، وينشر بينهم الدين والعلم الذي يهتدي به العباد في جميع أمورهم ، من عبادات ومعاملات وغيرها .

q           بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار - (1 / 294)

قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ]

 

q           بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار - (1 / 295)

وقد يكون من تمنى شيئا من هذه الخيرات ، له مثل أجر الفاعل إذا صدقت نيته ، وصمم من عزيمته أن لو قدر على ذلك العمل ، لعمل مثله ، كما ثبت بذلك الحديث . وخصوصا إذا شرع وسعى بعض السعي .

 

تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي - (1 / 180)

فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْحَسَدِ، لِأَنَّ الْحَاسِدَ يُضَادُّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّاصِحَ هُوَ رَاضٍ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

 

 

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ  [الزمر : 9]

q           التحرير والتنوير - (23 / 349)

وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخُو الْعِلْمِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا نُورٌ وَمَعْرِفَةٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْكُفْرَ أَخُو الضَّلَالِ لِأَنَّهُ وَالضَّلَالَ ظُلْمَةٌ وَأَوْهَامٌ بَاطِلَة.

 

التحرير والتنوير - (23 / 349)

وَإِذْ قَدْ كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةً عَنِ الْفَضْلِ آلَ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَضْلِ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، فَإِنَّكَ مَا تَأَمَّلْتَ مَقَامًا اقْتَحَمَ فِيهِ عَالِمٌ وَجَاهِلٌ إِلَّا وَجَدْتَ لِلْعَالَمِ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ مَا لَا تَجِدُهُ لِلْجَاهِلِ وَلِنَضْرِبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِمَقَامَاتٍ سِتَّةٍ هِيَ جُلُّ وَظَائِفِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ:

الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : الِاهْتِدَاءُ إِلَى الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ نَوَالُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ مَقَامُ الْعَمَلِ،

فَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِهِ فَيَبْلُغُ الْمَقْصُودَ بِيُسْرٍ وَفِي قُرْبٍ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ مِنَ الْعَمَلِ أولى بالإقبال عَنهُ، وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِهِ يَضِلُّ مَسَالِكَهُ وَيُضِيعُ زَمَانَهُ فِي طَلَبِهِ فَإِمَّا أَنْ يَخِيبَ فِي سَعْيِهِ وَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ بَعْدَ أَنْ تَتَقَاذَفَهُ الْأَرْزَاءُ وَتَنْتَابَهُ النَّوَائِبُ وَتَخْتَلِطَ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَلَغَ الْمَقْصُودَ حَتَّى إِذَا انْتَبَهَ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مُرَادِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: 39] .

التحرير والتنوير - (23 / 350)

وَمِنْ أَجْلِ هَذَا شَاعَ تَشْبِيهُ الْعِلْمِ بِالنُّورِ وَالْجَهْلِ بِالظُّلْمَةِ.

الْمقَام الثَّانِي: ناشىء عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مقَام السَّلَام مِنْ نَوَائِبِ الْخَطَأِ وَمُزِلَّاتِ الْمَذَلَاتِ، فَالْعَالِمُ يَعْصِمُهُ عِلْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَاهِلُ يُرِيدُ السَّلَامَةَ فَيَقَعُ فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يُوقِعُ فِي الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ الْفَوْزِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16] إِذْ مَثَّلَهُمْ بِالتَّاجِرِ خَرَجَ يَطْلُبُ فَوَائِدَ الرِّبْحِ مِنْ تِجَارَتِهِ فَآبَ بِالْخُسْرَانِ وَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ سَعْيُ الْجَاهِلِ بِخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ النُّصْحِ يُسَهِّلُونَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَقِيهُمُ الْوُقُوعَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.

الْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أُنْسِ الِانْكِشَافِ فَالْعَالِمُ تَتَمَيَّزُ عِنْدَهُ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ وَتَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقَائِقُ فَيَكُونُ مَأْنُوسًا بِهَا وَاثِقًا بِصِحَّةِ إِدْرَاكِهِ وَكُلَّمَا انْكَشَفَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَانَ كَمَنْ لَقِيَ أَنِيسًا بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَالِمِ بِالْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ فَلَا يَدْرِي مَاذَا يَأْخُذُ وَمَاذَا يَدَعُ، فَإِنِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ خَشِيَ الزَّلَلَ وَإِنْ قَلَّدَ خَشِيَ زَلَلَ مُقَلَّدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الْبَقَرَة:

20] .

الْمَقَامُ الرَّابِعُ: مَقَامُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ بِمِقْدَارِ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمُ الْعَالِمِ قَوِيَ غِنَاهُ عَنِ النَّاسِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.

الْمَقَامُ الْخَامِسُ: الِالْتِذَاذُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ حَصَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ اللَّذَّةُ فِي الْمَعَارِفِ وَهِيَ لَذَّةٌ لَا تَقْطَعُهَا الْكَثْرَةُ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِالظِّلِّ إِذْ قَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: 19- 21] فَإِنَّ الْجُلُوسَ فِي الظِّلِّ يَلْتَذُّ بِهِ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ.

الْمَقَامُ السَّادِسُ: صُدُورُ الْآثَارِ النَّافِعَةِ فِي مَدَى الْعُمْرِ مِمَّا يُكْسِبُ ثَنَاءَ النَّاسِ فِي الْعَاجِلِ وَثَوَابَ اللَّهِ فِي الْآجِلِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ مَصْدَرُ الْإِرْشَادِ وَالْعِلْمِ دَلِيل عَلَى الْخَيْرِ وَقَائِدٌ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وَالْعِلْمُ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ

ثَوَابٌ جَزِيلٌ،

قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»

التحرير والتنوير - (23 / 351)

وَعَلَى بَثِّهِ مِثْلُ ذَلِكَ،

قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بثه فِي صُدُور الرِّجَال، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ»

. فَهَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ فِي صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَشْمُولٌ لِنَفْيِ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَتَتَشَعَّبُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ فُرُوعٌ جَمَّةٌ وَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا تَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ.

 

 

البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (16/ 448_449) :

1 - (منها): بيان فضل من يقوم بالقرآن آناء الليل وآناء النهار.

2 - (ومنها): بيان فضل إنفاق المال في وجوه الخير آناء الليل وآناء النهار.

3 - (ومنها): الحثّ على الاغتباط في العلم، وعمل الخير، وأن ذلك ليس من التنافس المذموم.

4 - (ومنها): ما قاله ابن بطال -رَحِمَهُ اللَّهُ-: فيه من الفقه أن الغنيّ إذا قام بشروط المال، وفَعَلَ ما يُرْضِي ربه تبارك وتعالى، فهو أفضل من الفقير الذي لا يقدر على مثل هذا.

5 - (ومنها): ما قاله الخطابيُّ: معنى الحديث: الترغيب في طلب العلم، وتعلمه، والتصدق بالمال، وقيل: إنه تخصيص لإباحة نوع من الحسد، كما رُخِّص في نوع من الكذب، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الكذب لا يحل إلَّا في ثلاث. . . " الحديث [خ م].

والحسد على ثلاثة أضرب: محرَّم، ومباحٌ، ومحمودٌ، فالمحرم تمنّي زوال النعمة المحسود عليها عن صاحبها، وانتقالها إلى الحاسد، وأما القسمان الآخران، فغبطة، وهو أن يتمنى ما يراه من خير بأحدٍ أن يكون له مثله، فإن كانت في أمور الدنيا فمباحٌ، وإن كانت من الطاعات فمحمودٌ، قال النوويّ: الأول حرام بالإجماع.

وقال بعض الفضلاء: إذا أنعم اللَّه تعالى على أخيك نعمةً، فكَرِهتها، وأحببت زوالها فهو حرامٌ بكل حال، إلّا نعمة أصابها كافرٌ، أو فاجرٌ، أو من يستعين بها على فتنة أو فساد. انتهى [راجع: "عمدة القاري" 2/ 87].____

6 - (ومنها): ما قاله الطيبيُّ: أثبت الحسد في الحديث لإرادة المبالغة في تحصيل النعمتين الخطيرتين، يعني ولو حصلتا بهذا الطريق المذموم، فينبغي أن يُتَحَرَّى ويُجْتَهَد في تحصيلها، فكيف بالطريق المحمود؟ ، بل أقول: هو الطريق المحمود لذاته، والمأمور في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} الآية [البقرة: 148]، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 10 - 11]، فإن السبق هو رَوْمُ نَيْلِ ما لصاحبك، واختصاصك به، قالت الخنساء [من الطويل]:

وَمَا بَلَغَتْ كَفُّ امْرِئٍ مُتَنَاوَلًا مِنَ الْمَجْدِ ... إِلَّا وَالَّذِي نَالَ أَطْوَلُ

وهو الحسد المباح الذي سبق ذكره، وكيف لا؟ وكلُّ واحدة من هاتين الخصلتين بلغت غايةً لا أمد فوقها، ولو اجتمعتا في امرئ بلغ من العَلْياء كل مكان. انتهى

==========================

 

مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 62):

"الْوَجْه السَّادِس والاربعون :

قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الأعلى حَدثنَا سَلمَة بن رَجَاء حَدثنَا الْوَلِيد بن حميد حَدثنَا الْقَاسِم عَن أبي أمامة الْبَاهِلِيّ قَالَ : ذُكِرَ لرَسُول الله رجلَانِ : أحدهما : عَالم، وَالْآخر : عَابِد.

فَقَالَ رَسُول الله : (فصل الْعَالم على العابد كفضلي على أدناكم)،

ثمَّ قَالَ رَسُول الله : إن الله وَمَلَائِكَته وأهل السَّمَوَات والأرض حَتَّى النملةَ فِي جُحْرِها وَحَتَّى الْحُوتَ فِي الْبَحْر ليصلون على معلمي النَّاس الْخَيْرَ)."

قَالَ التِّرْمِذِيّ : "هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب سَمِعت أَبَا عمار الْحُسَيْن ابْن حُرَيْث الْخُزَاعِيّ قَالَ سَمِعت الفضيل بن عِيَاض يَقُول : "عَالم عَامل معلم يدعى كَبِيرا فِي ملكوت السَّمَوَات."

وَهَذَا مروى عَن الصَّحَابَة.

 قَالَ ابْن عَبَّاس : "عُلَمَاء هَذِه الامة رجلَانِ : فَرجل اعطاه الله علما،___فبذله للنَّاس وَلم يَأْخُذ عَلَيْهِ صفدا وَلم يشتر بِهِ ثمنا، أولئك يصلى عَلَيْهِم طير السَّمَاء وحيتان الْبَحْر ودواب الارض والكرام الكاتبون، وَرجل آتَاهُ الله علما، فضَنَّ بِهِ عَن عباده، وأخذ بِهِ صَفَدًا وَاشْترى بِهِ ثمنا، فَذَلِك يأتي يَوْم الْقِيَامَة يُلْجَمُ بلجام من نَار."

ذكره ابْن عبد الْبر مَرْفُوعا، وَفِي رَفعه نظر.

وَقَوله : (إن الله وَمَلَائِكَته واهل السَّمَوَات والارض يصلونَ على معلم النَّاس الْخَيْر)،

لما كَانَ تَعْلِيمه للنَّاس الْخَيْر سَببا لنجاتهم وسعادتهم وَزَكَاة نُفُوسهم جازاه الله من جنس عمله بَان جعل عَلَيْهِ من صلَاته وَصَلَاة مَلَائكَته واهل الارض مَا يكون سَببا لنجاته وسعادته وفلاحه وايضا،

فَإِن معلم النَّاس الْخَيْر لما كَانَ مظْهرا لدين الرب وأحكامه ومعرِّفا لَهُم بأسمائه وَصِفَاته جعل الله من صلَاته وَصَلَاة أهل سمواته وأرضه عَلَيْهِ مَا يكون تنويها بِهِ وتشريفا لَهُ وإظهارا للثناء عَلَيْهِ بَين اهل السماء والارض." اهـ

 

صحيح وضعيف سنن الترمذي (6/ 185، بترقيم الشاملة آليا)

صحيح، المشكاة (213 / التحقيق الثاني) ، التعليق الرغيب (1 / 60)

 

تحفة الأحوذي (7/ 380)

قَالَ الطِّيبِيُّ وَصَلَاتُهُ بِحُصُولِ الْبَرَكَةِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ (وَحَتَّى الْحُوتَ) كَمَا تَقَدَّمَ وَهُمَا غَايَتَانِ مُسْتَوْعِبَتَانِ لِدَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (لَيُصَلُّونَ) فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَيْ يَدْعُونَ بِالْخَيْرِ (عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ) قِيلَ أَرَادَ بِالْخَيْرِ هُنَا عِلْمَ الدِّينِ وَمَا بِهِ نَجَاةُ الرَّجُلِ وَلَمْ يُطْلِقِ الْمُعَلِّمَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدُّعَاءِ لِأَجْلِ تَعْلِيمِ عِلْمٍ مُوَصِّلٍ إِلَى الْخَيْرِ انْتَهَى وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ الْأَفْضَلِيَّةِ بِأَنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ مُتَعَدٍّ وَنَفْعَ الْعِبَادَةِ قَاصِرٌ

 

ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (15/ 136)

أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله وملائكته يصلّون على معلّم الناس الخير" (2) وهذا لأن بتعليمهم الخير قد أنقذوهم من شر الدنيا والآخرة، وتسببوا بذلك إلى فلاحهم وسعادتهم، وذلك سبب دخولهم في جملة المؤمنين الذين يصلي عليهم الله____وملائكته، فلما تسبب معلمو الخير إلى صلاة الله وملائكته على من يتعلّم منهم، صلى الله عليهم وملائكتُه، ومن المعلوم أنه لا أحد من معلّمي الخير أفضل، ولا أكثر تعليماً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا أنصح لأمته، ولا أصبر على تعليمه منه، ولهذا نالت أمته من تعليمه لهم ما لم تَنَلْه أمة من الأمم سواهم، وحصل للأمة من تعليمهم من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ما صارت به خير أمة أُخرجت للعالمين." اهـ

 

المفاتيح في شرح المصابيح (1/ 316)

وإنما فضل العالم يكون أكثر من فضل العابد؛ لأن العابد يعمل شيئًا ينفع نفسه فقط وهو العبادة، وأما علم العالم ينفع نفسه وغيره من المسلمين.

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 298)

وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى وَجْهِ الْأَفْضَلِيَّةِ بِأَنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ مُتَعَدٍّ وَنَفْعَ الْعِبَادَةِ قَاصِرٌ، مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ فِي نَفْسِهِ فَرْضٌ، وَزِيَادَةَ الْعِبَادَةِ نَافِلَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

 

الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 36)

وَقَالَ الْحَسَنُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا مَثَلُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ مَثَلُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ إذَا رَآهَا النَّاسُ اقْتَدَوْا بِهَا، وَإِذَا عَمِيَتْ عَلَيْهِمْ تَحَيَّرُوا»

 

فيض القدير (4/ 432)

وقال الذهبي: إنما كان العالم أفضل لأن العالم إذا لم يكن عابدا فعلمه وبال عليه وأما العابد بغير فقه فمع نقصه هو أفضل بكثير من فقيه بلا تعبد كفقيه همته في الشغل بالرئاسة اه.

 

التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 170)

الصَّلَاة من الله رَحْمَة وَمن الْمَلَائِكَة اسْتِغْفَار وَلَا رُتْبَة فَوق رُتْبَة من يشْتَغل الْمَلَائِكَة وَجَمِيع الْخلق بالاستغفار وَالدُّعَاء لَهُ


 

شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (2/ 676)

وذكر النملة وتخصيصها مشعر بأن صلوتها لحصول البركة النازلة من السماء، فإن دأب النملة القُنِيَة وادخارَ القوت في جحرها، ثم التدرج منها إلى الحيتان، وإعادة كلمة الغاية للترقي، كما مر في الحديث السابق. والله أعلم." اهـ

 

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 298)

(حَتَّى النَّمْلَةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ حَتَّى عَاطِفَةٌ، وَبِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا جَارَّةٌ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (فِي جُحْرِهَا) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، أَيْ: ثُقْبِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَلَاتُهُ بِحُصُولِ الْبَرَكَةِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ (وَحَتَّى الْحُوتَ) : كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُمَا غَايَتَانِ مُسْتَوْعِبَتَانِ لِدَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَخُصَّتِ النَّمْلَةُ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْحَيَوَانَاتِ ادِّخَارًا لِلْقُوتِ فِي جُحْرِهَا فَهِيَ أَحْوَجُ إِلَى بَرَكَتِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْحُوتِ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ، وَقِيلَ: وَجْهُ تَخْصِيصِهِمَا بِالذِّكْرِ الْإِشَارَةُ إِلَى جِنْسِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقِيلَ: إِلَى الْجِنْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْقَتْلُ وَغَيْرِهِ

 

فيض القدير (4/ 433)

وأما إلهام الحيوانات الاستغفار له فقيل لأنها خلقت لمصالح العباد ومنافعهم والعلماء هم المبينون ما يحل منها وما يحرم ويوصون بالإحسان إليها ودفع الضر عنها حتى بإحسان القتلة والنهي عن المثلة فاستغفارهم له شكر لذلك النعمة وذلك في حق البشر آكد لأن احتياجهم إلى العلم أشد وعود فوائده عليهم أتم

 

مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (4/ 326)

في فوائده:

1 - (منها): ما ترجم له المصنّف -رحمه الله-، وهو بيان فضل العلماء، والحثّ على طلب العلم.

2 - (ومنها): ما قاله الطيبي -رحمه الله-: لا تظنّنّ أن العالم المفضّل عاطلٌ عن العمل، ولا العابد عن العلم، بل إنّ علمَ ذلك غالبٌ على عمله، وعمل هذا غالبٌ على علمه، ولذلك جُعل العلماء ورثة الأنبياء الذين فازوا بالحسنيين: العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين: الكمال والتكميل، وهذا طريق العارفين بالله تعالى، وسبيل السائرين إلى الله تعالى. انتهى (1).

3 - (ومنها): أن العالم لمّا كان ساعيًا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع الهلكات، وكان سعيه مقصورًا على هذا، وكانت نجاة العباد على يديه جوزي من جنس عمله، وجُعل من في السماوات والأرض ساعيًا في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له.

4 - (ومنها): أن هذا الاستغفار غير استغفار حملة العرش، ومن حوله لعموم المؤمنين الذي ذكره الله تعالى في قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية [غافر: 7]، فإن ذاك خاص بحملة العرش ومن حوله، عامّ لجميع المؤمنين، وهذا عامّ من جميع من في السماوات ومن في الأرض، خاص بطالب العلم؛ زيادةً على الاستغفار الأول؛ لزيادة فضل العلم، والله تعالى أعلم.

5 - (ومنها): أن فيه إيماء إلى أن طريق الجنة محصورة في طرق العلم؛ لأن الجنة جزاء العمل الصالح وهو لا يُتصوّر ولا يتحقق بدون العلم.___

مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (4/ 327)

6 - (ومنها): تعظيم الملائكة، واحترامهم، وبسط أجنحتهم لطالب العلم، ونقل ابن القيّم عن أحمد بن شعيب، قال: كنا عند بعض المحدّثين بالبصرة، فحدّثنا بهذا الحديث، وفي المجلس شخصٌ من المعتزلة، فجعل يستهزىء بالحديث، فقال: والله لأطرقنّ غدًا نعلي، وأطأ بها أجنحة الملائكة، ففعل، ومشى في النعلين، فحفت رجلاه، ووقعت فيهما الأكلة.

وقال الطبرانيّ: سمعت ابن يحيى الساجيّ يقول: كنا نمشي في أزقّة البصرة إلى باب بعض المحدّثين، فأسرعنا المشي، وكان معنا رجل ماجنٌ متّهم في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها، كالمستهزىء بالحديث، فما زال عن موضعه حتى حفَت رجلاه، وسقط إلى الأرض. انتهى.

نقلت هاتين الحكايتين من "المرقاة شرح المشكاة" لعلي القاري (1)، ولا أدري صحتهما. والله تعالى أعلم.

7 - (ومنها): بيان فضل العالم على العابد؛ لأن العلم متعدّ، بخلاف العبادة، قال القرطبيّ -رحمه الله-: هذه المفاضلة بين العالم والعابد لا تصحّ حتى يكون كلّ واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل، فإن العابد لو ترك شيئًا من الواجبات، أو عملها على جهل لم يستحقّ اسم العابد ولا تصحّ له عبادة، والعالم لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مذمومًا، ولم يستحقّ اسم العالم، فإذًا محلّ التفضيل إنما هو في النوافل، فالعابد يستعمل أزمانه في النوافل من الصلاة، والصوم، والذكر، وغير ذلك، والعالم يستعمل أزمانه في طلب العلم وحفظه، وتقييده، وتعليمه، فهذا هو الذي شبّهه بالبدر؛ لأنه قد كمُل في نفسه، واستضاء به كلّ شيء في العالم، من حيث إن علمه تعدّى لغيره، وليس كذلك العابد، فإن غايته أن ينتفع في نفسه، ولذلك شبهه بالكوكب الذي غايته أن يُظهر___

مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (4/ 328)

نفسه. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله- (1)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ. والله تعالى أعلم.

8 - (ومنها): ما قال القرطبيّ -رحمه الله-: أيضا: إنما خصّ العلماء بالوراثة، وإن كان العبّاد أيضًا قد ورِثُوا العلم بما صاروا به عُبّادًا؛ لأن العلماء هم الذين نابوا عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في حملهم العلمَ عنه، وتبليغهم إياه لأمته، وإرشادهم لهم، وهدايتهم، وبالجملة هم العاملون بمصالح الأمة بعده الذّابّون عن سنّته، الحافظون لشريعته، فهؤلاء الأحقّ بالوراثة، والأولَى بالنيابة والخلافة، وأما الْعُبّاد فلم يُطلق عليهم اسم الورثة؛ لقصور نفعهم، ويسير حظّهم. انتهى (2).

9 - (ومنها): أن فيه إشارة إلى حقارة الدنيا، وأن الأنبياء لم يأخذوا منها إلا بقدر ضرورتهم، فلم يورّثوا شيئًا منها؛ لئلا يُتوهّم أنهم كانوا يطلبون الدنيا لتورث عنهم، وفيه إيماء إلى كمال توكلهم على الله تعالى في أنفسهم وأولادهم، وإشعار بأن طالب الدنيا ليس من العلماء الوارثين لهم، ولذا قال الغزاليّ -رحمه الله-: أقلّ العلم، بل أقلّ الإيمان أن يعرف أن الدنيا فانيةٌ، وأن الآخرة باقية، ونتيجة هذا العلم أن يُعرض عن الفاني، ويُقبل على الباقي.

[فإن قلت]: يُعارض هذا ما ثبت أنه كان للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان له صفايا بني النضير، وفدك، وخيبر إلى أن مات وخلفها، وكان لشعيب -عليه السلام- أغنام كثيرة، وكان أيوب وإبراهيم -عليهما السلام- ذَوَي ثروة ونعمة كثيرة.

[أُجيب]: بأن المراد أنه ما ورِثَ أولادهم، وأزواجهم شيئًا من ذلك، بل بقي بعدهم مُعَدّا لنوائب المسلمين.

وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" بإسناد حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه مرّ بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟___

مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (4/ 329)

قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقسم، وأنتم هاهنا، ألا تذهبون، فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد فخرجوا سراعًا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟، فقالوا: يا أبا هريرة قد أتينا المسجد، فدخلنا فيه، فلم نَرَ فيه شيئًا يُقسَم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلّون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم، فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم- (1)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

 

شرح المصابيح لابن الملك (1/ 204)

درجةَ العلماء قاصيةٌ لا تُنال إلا باجتهاد عظيم.

 

 

شرح المصابيح لابن الملك (1/ 204)

وإنما لم يطلق (المعلّم) ليُعلَم أن استحقاق الصلوات لأجل تعليم علم يوصل إلى الخير؛ أي: إلى الله تعالى.

 

Komentar

Postingan populer dari blog ini

الحديث العشرون من صحيح الترغيب بشرح الأستاذ عبد القادر البوجيسي

الوجه السادس والعشرون إلى الوجه الثامن والعشرون من كتاب مفتاح دار السعادة

الحديث الثاني والعشرون